بحث مخصص

السبت، 25 ديسمبر 2010

شبكة التربية الإسلامية الشاملة أقسام ثاني باك




تعريف الإجماع وتحليله

تعريفــــه:
الإجماع في اللغة الاتفاق، يقال: أجمعوا على الأمر اتفقوا عليه (المصباح المنير مادة جمع، والتلويح على التوضيح 2/41.)
وهو في اصطلاح الأصوليين: (اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على حكم شرعي).

تحليل التعريــف:

اتفـاق: معناه الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل،  لأن ذلك كله من الإجماع، فلا يكون الإجماع خاصا بالقول فقط.
المجتهديـن: فيه إخراج من لم يبلغ درجة الاجتهاد من العلماء،  أو عوام الناس،  فإنه لا عبرة بإجماعهم، وقد عرف باللام وهي للاستغراق هنا احترازا عن اتفاق بعض مجتهدي عصر من العصور، فإنه ليس إجماعا عند الجمهور كما سيأتي، خلافا لبعض العلماء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيه احتراز عن اتفاق مجتهدي الشرائع الأخرى السابقة. فإنه ليس إجماعا عندنا (أن الإجماع من خواص هذه الأمة كما سيأتي تكريما لها ورفعا لشأنها.

في عصــر: معناه في زمان ما، قل العدد أو كثر، تنكيره احترازا عن سبق الذهن إلى أن الإجماع هو إجماع كل المجتهدين في كل العصور إلى آخر الزمان، لأن الإجماع يجب فيه ذلك، بل إجماع المجتهدين في عصر واحد يكفي.
على حكم شرعي: هذا قيد يخرج به ما ليس حكما،  وما كان حكما غير شرعي،  فإن الإجماع في ذلك ليس حجة عند الجمهور،  وقد أطلق بعض العلماء التعريف ولم يذكر هذا القيد ومنهم ابن الحاجب حيث قال: (على أمر) ليشمل الشرعي وغيره، فيدخل في ذلك وجوب اتباع آراء المجتهدين في أمر الحروب ونحوها مما لا يدخل في نطاق الحكم الشرعي، ولكن يجاب عن هذا الإطلاق بأن من ترك اتباع هذا الإجماع الأخير إن كان يأثم في تركه،  فهو إجماع على حكم شرعي يدخل في نطاق الإجماع بهذا القيد،  وإن كان لا يأثم في ترك هذا الإجماع فهذا معناه أن ذلك ليس من الإجماع الملزم،  فلا مانع أن يكون من الواجب إخراجه من التعريف.



ركن الإجماع

ركن الإجماع الاتفاق قولا أو عملا، بأن يتفق المجتهدون جميعا، لا يتخلف عن ذلك واحد منهم، على قول واحد،  سواء كانوا مجتمعين في مكان واحد أو لا، بأن يثبت عنهم جميعا الفتيا في مسألة معينة على حكم واحد،  وكذلك اتفاقهم في العمل، بأن يصدر عن كل منهم العمل في المسألة على نهج واحد، لأن العمل من المجتهد دليل المشروعية.
هذا عند جماهير الفقهاء، وذهب بعض الناس إلى أن الإجماع هو إجماع الصحابة لا غير، لأنهم الأصول في أمور الدين لصلتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وشهودهم الوحي، فلا عبرة بإجماع غيرهم.

وذهب ناس آخرون إلى أن الإجماع هو إجماع العترة النبوية لا غير لطهارتهم من الرجس بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33) وذهب آخرون إلى أن الإجماع خاص بأهل المدينة دون غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المدينة طيبة تنفي خبثها)، ولا شك أن الخبث هنا هو الخطأ.

وذهب قوم إلى أن الإجماع هو اتفاق أكثر المجتهدين فقط، ولا يشرط اتفاق جميعهم، فلو خالف قلة منهم لم يضر ذلك الإجماع،  ومن هؤلاء بعض المعتزلة، والأصح مذهب الجمهور، لما يأتي في أدلة حجية الإجماع.








أنواع الإجمــاع

ما تقدم هو العزيمة في ركن الإجماع،  وهي اتفاق المجتهدين جميعا قولا وعملا، والرخصة فيه على ما ذهب إليه بعض الأصوليين، أن يقول بعض المجتهدين في عصر من العصور قولا أو يعمل عملا فيسمع الآخرون به فلا يعارضونه،  فإنهم بذلك ينزلون منزلة الموافق، ويعتبر هذا القول أو العمل مجمعا عليه منهم،  وهو ما يسمى بالإجماع السكوتي، وإنما جعل رخصة لأنه جعل إجماعا ضرورة نفي نسبتهم إلى الفسق والتقصير في أمر الدين، فإن الساكت عن الحق في موضع الحاجة شيطان أخرس،  ثم لو شرط لانعقاد الإجماع التنصيص من الكل لأدى إلى تعذر انعقاده، لأن في الوقوف على قول كل واحد منهم في حكم كل حادثة حرجا بينهم،  فينبغي أن يجعل اشتهار الفتوى والسكوت من الباقين كافيا في انعقاد الإجماع، لكن هذا القول محل اختلاف كبير بين الفقهاء، يتضح فيما يلي:
فقد ذهب الأصوليون إلى أن الإجماع على قسمين:
1- إجماع صريح، وهو أن يتفق المجتهدون على قول أو فعل بشكل صريح، بأن يروى عن كل منهم هذا القول أو الفعل دون أن يخالف في ذلك واحد منهم.
2- إجماع سكوتي: وهو أن يقول أو يعمل أحد المجتهدين بقول أو بعمل فيعلم الباقون بذلك فلا يظهرون معارضة ما.
والقسم الأول هو العزيمة في الإجماع كما تقدم، وهو حجة باتفاق جماهير الفقهاء، أما القسم الثاني فقد اختلفوا في حجيته على آراء كما يلي:
1- أنه ليس حجة مطلقا، ولا يعتبر من أنواع الإجماع الذي هو أحد مصادر الشريعة الإسلامية، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله،  وعيسى ابن أبان من الحنفية، وأبو بكر الباقلاني من الأشعرية، وبعض المعتزلة، وداود الظاهري.
2- أنه يعتبر إجماعا قطعيا، ولكنه في مرتبة ثانية بعد الإجماع الصريح، فلا يكفر جاحده، بخلاف الإجماع الصريح، فإنه يكفر جاحده كما سيأتي،  وإلى هذا ذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية، وهو مذهب أحمد بن حنبل.
3- أنه حجة بشرائط انقراض العصر، ليتيقن من انتفاء المعارضة،  وهذا مذهب أبي اسحق الإسفرائيني.
4- أنه إجماع ولكنه ليس قطعيا، إنما هو دليل ظني كسائر الأدلة الظنية الأخرى،  وهو مذهب أبي الحسن الكرخي من الحنفية، والآمدي من الشافعية.



أدلة حجية الإجمــاع الصريح:
اتفق جمهور المسلمين على أن الإجماع حجة، وأنه دليل من أدلة الشريعة الإسلامية، وإن كانوا اختلفوا في أنواعه وطبيعته وشروطه على ما مر، وسيأتي، وخالف في ذلك النظَّام وبعض الشيعة والخوارج، وذهبوا إلى أن الإجماع ليس بحجة أصلا.
وقد استدلوا لحجية الإجماع بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على النحو التالــي:

من الكتــاب الكريم:
لقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تفيد كلها وجوب احترام اتفاق المسلمين والمنع من مخالفتهم، كما تدل على صلاحهم وتقواهم بطريق يحيل اجتماعهم على ضلال أو خطأ.
ومن هذه الآيات الكريمة.
قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)

وجه الاستدلال بهذه الآيـــة الكريمة:
أن الله جمع في هذه الآية بين مشاقّة الرسول صلى الله عليه وسلم  واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، ولا شك أن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحدها تستوجب الوعيد. فدل ذلك على أن اتباع غير سبيل المؤمنين المذكور حرام يستوجب الوعيد كذلك، وإلا لما كان في ضمه إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فائدة. وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما كان اتباع سبيلهم واجبا، لأن اتباع أحد السبل لا بد منه بنص الآية: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)
ولا شك أن سبيل المؤمنين هو ما اتفقوا عليه، فكان ما اتفقوا عليه واجب الاتباع لذلك.

قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)

وجه الاستدلال بهذه الآيــة:
إن الخيرية توجب الحقيقة فيما اجتمعوا عليه،  لأنه لو لم يكن حقا لكان ضلالا، لقوله تعالى: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32)، ولا شك أن الأمة الضالة لا تكون خير الأمم، على أن الله تعالى وصفهم بقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)، فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء معروفا، وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكرا، فيكون إجماعهم حجة لذلك.

قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة:143)

وجه الاستدلال بهذه الآيــة الكريمة:
إن الوساطة هي العدالة، ومنه قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) (القلم:28)، أي أعدلهم، ثم كل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط،، فإن رؤوس الفضائل الحكمة والفقه والشجاعة والعدالة. فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقلية، وهي متوسطة بين الحربزة والغباوة، وكذلك كل من العفة والشجاعة والعدالة، فكان التوسط لذلك هو منتهى هذه الفضائل كلها.

من السنة المطهرة:
هنالك أحاديث عدة وآثار ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجموعها عصمة هذه الأمة عن الخطأ والزلل، واستحالة اجتماعها على غير الحق، من هذه الأحاديث: (إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ) رواه ابن ماجه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) رواه أحمد في كتاب السنة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن يد الله على الجماعة)رواه النسائي، وقوله صلى الله عليه وسلم : (من خالف الجماعة قدر شبر فقد مات ميتة جاهلية)رواه أحمد، وقولهصلى الله عليه وسلم: (عليكم بالسواد الأعظم)رواه أحمد، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة الكثيرة.

من العقـــل:
من المتفق عليه أن المجتهد في الإسلام لا يذهب إلى قول إلا إذا قام عليه الدليل، لأن خلاف ذلك تشهي، والاجتهاد غير التشهي، إذ إن للاجتهاد قيودا وشروطا كثيرة معروفة في بابها، فإذا كان هذا حال المجتهد فاجتماع المجتهدين أولى بهذه الخاصية، وعلى ذلك يكون معناه اتفاق المجتهدين على ثبوت الدليل،  وإذا كان كذلك كان الحكم واجب الاتباع لهذا الدليل، لكن نظرا لخفاء الدليل علينا أقمنا إجماعهم على الحكم مقام الدليل نفسه، لأنه دليل عليه.




أدلة نفاة الاحتجاج بالإجماع السكوتي

أن عمر بن الخطاب t عندما شاور الصحابة y في عدة مسائل،
منها: مسألة مال فضل عنده ماذا يفعل به.
ومنها إسقاط المرأة جنينها هيبة منه،  فأشاروا عليه كل بما رآه، وكان علي t ساكتا حتى سأله عن رأيه فأفتاه، وذكر له الأدلة بما يخالف رأي الفقهاء الآخرين، ، فمال عمر إلى رأيه وسار عليه، فإن هذا يدل على أن عليا t سكت أول الأمر ولم يكن سكوته رضا بما أشار به الصحابة على عمر t، بدليل أنه أفتاه بعد ذلك بخلاف ما أشاروا به عليه، فكيف يمكن مع هذا اعتبار السكوت دليلا على الموافقة.
سكوت ابن عباس y عن مخالفة عمر t في حياته في مسألة العول وإظهاره المخالفة والتحدي بعد وفاته، حيث قال له بعض الصحابة: (ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول؟ فقال: الدرة)، فإن كانت الدرة منعت ابن عباس  y من إعلان مخالفته فلا شك أن السيوف المسلطة على رقاب العلماء في عصور كثيرة متأخرة قد تمنع هؤلاء العلماء من إعلان مخالفتهم، فلا يكون سكوتهم دليلا على الرضا، وما أكثر السيوف الظالمة عبر تاريخنا.
ج- سكوت العلماء قد يكون للتروي والتأمل والنظر وغير ذلك من الأسباب المانعة لإظهار الرأي فلا يصح أن يعتبر السكوت مع ذلك كله رضا وموافقة.



أدلة المحتجين بالإجماع السكوتي
ومناقشتهم لأدلة النافين له:
اشتراط التكلم أو العمل من كل المجتهدين متعسر غير معتاد، والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم، فكان سكوتهم تسليما على حسب العادة،  فلا يحتاج مع هذه العادة إلى دليل، بل العكس هو الذي يتحاج إلى دليل.
لا يمكن اعتبار السكوت إلا موافقة، لأن الحكم إذا كان مخالفا لرأي هذا الساكت كان السكوت عليه حراما، والمجتهدون والصحابة بصورة أخص لا يتهمون بذلك، إذ لو حصل منهم ذلك لزالت عدالتهم وسقط اعتبارهم من زمرة أهل الإجماع، وعندها لاعبرة لمخالفتهم الموهومة، مع أن الإجماع انعقد على عدالتهم جميعا.
ج- يجاب عن سكوت علي t الذي احتج به المخالفون –كما تقدم- بأنه محمول على أن ما أفتوا به من إمساك المال الفائض عنده  وعدم الغرم عليه في مسألة الإسقاط كان حسنا، إلا أن تعجيل أداء الصدقة والتزام الغرم صيانة عن القيل والقال رعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن،  فلم يكن سكوته إلا رضا.
د- إذا سلمنا بأن ما أفتوا به كان خطأ صريحا في رأي علي t ، فلا نسلم بأن سكوته كان متحققا فعلا، لأن السكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز،  وذلك إلى آخر المجلس تعظيما للفتيا. وعلي tلم يسكت مطلقا، بل سكت لتوقع سؤاله، فلم يكن هذا السكوت هو السكوت المتكلم فيه، لأن السكوت المتكلم فيه إنما هو السكوت بعد العلم ومضي مدة التأمل -على ما يأتي-، ولم يكن هنا كذلك، فلم يكن فيه حجة لهـــم.
هـ- أما حديث الدِرة فغير صحيح، لأن الخلاف والمناظرة بين الصحابة في مسألة العول، أشهر من أن تخفى على عمر t، ثم إن عمر t كان ألين للحق من أن تخشى درته في سبيله، فإن له من المواقف الكثيرة ما يشهد له بذلك.
وعلى التسليم بصحة هذا الحديث، فإنه يجب حمله على أن ابن عباس y إنما اعتذر عن الكف عن المناظرة مع عمر لا عن بيان مذهبه ورأيه، إذ الواجب على أي مؤمن في مثل هذه الحال أن يبين رأيه وما هو حق عنده،  فكيف بابن عباس y ترجمان القرآن، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس، لكن المناظرة غير واجبة عليه، ولذلك اعتذر عن الكف عنها لذلك، وهي غير موضع البحث هنا.
وأما ما استدل به الخصوم من أن هذا السكوت قد يكون للتروي لا للموافقة، فإنه مردود، لأن من شروط الإجماع السكوت مضي مدة التروي والتأمل، ولذلك لم يعد لهذه الشبهة من وجه،
هذا وقد اختلف في مدة التروي، فقيل ثلاثة أيام، وقيل مجلس العلم،  والأصح عندي أن ذلك يختلف باختلاف نوع المسألة تعقيدا وسهولة، وحال المجتهد استعدادا وفتورا، فلا يقطع في مدته بزمن معين، ولذلك أرى رجحان مذهب الحنفية في اعتبار الإجماع السكوتي دليلا قطعيا، ولكنه دون الإجماع الصريح،  فلا يكفر جاحده بخلاف الإجماع الصريح.









شــــروط صحة الإجماع:

لا بد لصحة الإجماع من شرائط معينة، بحيث إذا فات واحد منها اعتبر إجماعا باطلا لا حجة فيه مطلقا، وهذه الشروط منها ما هو محل اتفاق ومنها ما هو محل اختلاف بين الفقهاء، وهي:
1- انقراض عصر المجمعين: أي إن الإجماع لا يعتبر حجة إلا إذا انقرض عصر المجتهدين الذين أجمعوا على حكم المسألة، فما دام واحد منهم حيا لم يعتبر هذا الإجماع حجة.
وقد ذهب إلى اشتراط هذا الشرط أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي، واحتجوا بأن رجوع بعض المجتهدين محتمل ما داموا أحياء، فينتقض الإجماع بذلك،  فإذا ماتوا انقطع هذا الاحتمال وثبت الإجماع.
وذهب جمهور الفقهاء وفيهم الحنفية وبعض الشافعية إلى أن انقراض العصر ليس بشرط، واحتجوا بأن الإجماع إنما هو في اللغة الاتفاق لا غير، وقد حصل، فلا يحتاج إلى غيره معه، وردوا على أصحاب الرأي الأول بأننا لا نجيز للمجمعين الرجوع عن رأيهم بعد ما تم الإجماع منهم، وذلك لأن الرجوع إما أن يكون من الجميع فيكونون بذلك أجمعوا على نقيض إجماعهم الأول، فنكون بذلك أمام إجماعين: أحدهما باطل لا محالة، وهذا محال، لأن الإجماع دليل قطعي لا احتمال فيه للنقيض،  وإما أن يكون الرجوع من واحد منهم فقط، وهذا محال أيضا، لأنه بذلك يخالف إجماع المؤمنين الذي هو حجة ملزمة للجميــع.
وبذلك يسلم للجمهور مذهبهم في عدم اشتراط انقراض العصر.

2- أن لا يكون على مسألة جرى فيها اختلاف بين الفقهاء في زمن الصحابة،  فلو اختلف الصحابة في مسألة بينهم ولم يتفقوا فيها على حكم،  امتنع على من بعدهم أن يجمعوا فيها على رأي.
وقد ذهب إلى اعتبار هذا الشرط في صحة الإجماع أحمد بن حنبل،  وأكثر الشافعية، وبعض أهل الحديث.
وذهب الحنفية وبعض الشافعية إلى أنه لا عبرة بهذا الشرط مطلقا،  ولا مانع عندهم من أن يجتمع التابعون على رأي خالف فيه بعض الصحابة y.

استدل أصحاب القول الأول بأدلة منهــا:
أ- إن اختلاف الصحابة لا شك ناتج عن دليل، وهذا يعني أن لكل منهم دليل على ما ذهب إليه، فكان إجماع من بعدهم تأييد لأحد الرأيين خلافا للرأي الثاني المبتني على الدليل، والإجماع في معارضة الدليل باطل.
ب- في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة،  إذ الإجماع حجة قطعية،  فمن خالفه اعتبر ضالا، ومحال تضليل الصحابة بعد ما شهد لهم الرسول e بالخيرية في أكثر من حديث شريف.

واستدل أصحاب القول الثاني بأدلة منها:
أن الأصل في الإجماع اتفاق أهل العصر، وقد فعلوا، فلا داعي إلى اشتراط شيء آخر.
لا يعني قبول الإجماع هنا معارضة الدليل الأول المخالف، لأن هذا الإجماع كان مبطلا للدليل ومثبتا أنه ليس دليلا، فلم يبق في معارضة الدليل، كما إذا أنزل الله تعالى نصا بعد العمل بالقياس، فإنه مبطل لحكم القياس،  وعلى ذلك لم يبق مبرر لتضليل الصحابة، لأنهم كانوا يتبعون دليلا ثم ألغي اعتبار ذلك الدليل.

3 -  قيام دليل يصلح للحكم: أو استناد الإجماع إلى دليل يصلح للحكم المجمع عليه، فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الإجماع لا يجوز انعقاده إلا إذا كان هناك دليل يدل على الحكم الذي يثبته الإجماع، ولم يشذ عن ذلك إلا قلة من الناس الذين رأوا أن الإجماع جائز ولو لم يكن هنالك دليل للحكم إلا الإلهام والتسديد.

وقد استدل الجمهور لهذا الشرط بأدلة منها:
أن الإجماع اجتهاد، بل هو مجموع اجتهاد المجتهدين، والاجتهاد معناه بذل الجهد في استخراج الحكم من دليله، فكان الإجماع كذلك، إذ ليس التشريع بدون دليل اجتهادا، بل تحكما، وهو ممنوع شرعا.
إن إجماع الأمة جميعها دون خلاف واحد فيها دليل على وجود الدليل، لأن العقل يحيل عادة اجتماع آراء المجتهدين جميعا دون خلاف واحد منهم من غير دليل يستند إليه هذا الإجماع، وذلك اعتمادا على تعدد المشارب والاتجاهات الفكرية، وطرق الاستنباط، فكان قيام الدليل واستناد الإجماع إليه ضرورة عقلية.
ولكن قد يقول قائل: إذا كان الإجماع محتاجا إلى دليل فلماذا لا نجعل هذا الدليل هو المستند في الحكم دون الإجماع، ثم ما هي فائدة الإجماع مع قيام الدليل؟
والجواب على ذلك أن كثيرا من الأدلة التفصيلية في الشريعة الإسلامية ظنية في دلالتها وثبوتها معا، ومنها ما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو ظني الثبوت قطعي الدلالة، وقليل منها قطعي الثبوت والدلالة معا، فإن كان الإجماع مستندا إلى دليل قطعي الثبوت والدلالة، فالاعتراض صحيح، لأن الإجماع لم يفده شيئا، ولكن إذا كان الدليل ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو ظني الثبوت والدلالة معا، فإن الإجماع في هذه الحال يرفعه من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع، لأن الإجماع دليل قطعي من أدلة الأحكام، فكان محتاجا إليه لذلك، لا سيما أن أكثر الأدلة في الشريعة الإسلامية –كما تقدم- من هذا النوع.
ج- أن لا يكون هناك نص قاطع يعارض ما جاء به الإجماع، سواء من  القرآن الكريم أو السنة الشريفة، ولو كان هنالك نص قطعي يعارضه فالإجماع باطل، لأن الإجماع لا ينعقد في معارضة النصوص القطعية، إذ النصوص تأتي في المرتبة الأولى، والإجماع في المرتبة الثانية بعدها، ولذلك لا يصح في معارضتها، وكذلك لا ينعقد في معارضة إجماع سابق، لأن الإجماع حجة قطعية فلا تجوز مخالفته مطلقا،  فإذا ما أجمع المسلمون في عصر من العصور على حكم لم يجز عقد إجماع بعدهم على خلافهم، وكل اتفاق على خلاف إجماعهم الأول باطل.





حكم الإجمــاع

اختلف الفقهاء في حكمه على حسب اختلافهم في أقسامه،  فمنهم من ذهب إلى أنه قطعي في كل أقسامه،  ومنهم من ذهب إلى أنه ظني في بعضها قطعي في بعضها الآخر، وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في حكم جاحده، أيكفر أم لا يكفر؟ فقيل إن كان قطعيا يكفر وإن كان ظنيا لا يكفر،، وقيل يكفر مطلقا وقيل لا يكفر جاحده أبدا.
والحق أن في المسألة تفصيل ووجوه على النحو التالي:
الوجه الأول: أن يكون الحكم الثابت بالإجماع مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أي علمه متيسر لكل الناس خاصتهم وعامتهم،  كفرضية الصلاة والحج والصوم والزكاة وحرمة الكذب، وغير ذلك، وهذا لاختلاف في تكفير جاحده.
الوجه الثاني: أن يكون الحكم المجمع عليه ليس من المعلوم من الدين بالضرورة، ولكن الإجماع المنعقد عليه قطعي الثبوت، ومتفق على صحته بين الفقهاء، بأن يكون إجماعا صريحا متواترا لم يستقر فيه خلاف سابق بين الصحابة.
فهذا الإجماع اختلف العلماء في تكفير جاحده.
فذهب أكثر الحنفية إلى تكفير جاحده مطلقا، لأنه إنكار لما ثبت قطعا أنه حكم الله تعالى، فيساوي في ذلك ما ثبت من الدين بالضرورة، لا فرق بينهما.
وذهب أكثر الشافعية إلى التفصيل، فقالوا: إن كان إجماعا مشتهرا فإن جاحده يكفر، وإن كان إجماعا خفيا لا يطلع عليه كل أحد فلا يكفر جاحده.
وذهب بعض الفقهاء الآخرين إلى أن جاحده لا يكفر مطلقا، لأنه ليس معلوما من الدين بالضرورة.
3- الوجه الثالث: أن يكون الإجماع غير مجمع على قطعيته، بأن كان سكوتيا أو منعقدا بعد خلاف سابق على موضوعه في زمن الصحابة،  أو كان قطعيا ولكنه ورد إلينا بطريق الآحاد. فإن هذا الإجماع لا يكفر جاحده باتفاق الفقهاء، لظنيته، واختلاف الفقهاء في حجيته، ، فإنه يساوي في ذلك كل الأدلة الظنية الأخرى،  ولم يقل أحد بتكفير منكر واحد منها، فكذلك هنـا.



درجــات الإجمــاع

مما تقدم نلاحظ أن الفقهاء على تسليمهم واتفاقهم على حجية الإجماع مختلفون في بعض أنواعه وشروطه، ولذلك فإننا سوف نعمد إلى ترتيب هذه الأنواع على حسب حجيتها ودرجتها بالنظر لاتفاق الفقهاء واختلافهم عليها، فنضعها في الدرجات التالية:
إجماع الصحابة الصريح في قولهم وعملهم على حكم معين،  فهذا محل اتفاق جميع المجتهدين والعلماء، ولم يختلف في حجيته أحد منهم كما تقدم، ولذلك فهو دليل قطعي بإجماعهم.
إجماع مَن بعد الصحابة إجماعا صريحا أيضا، بالقول أو الفعل، على أمر لم يرو فيه خلاف الصحابة، فهذا إجماع قطعي أيضا، حيث إنه لم يخالف في حجيته أحد ممن يعتد برأيه، إلا نفر قليل لا عبرة بخلافهم - كما تقدم-،  ولذلك فإن هذا النوع يأتي في المرتبة الثانية بعد النوع الأول، وإن كان قطعي الدلالة أيضا.
إجماع الصحابة إجماعا سكوتيا، فإنه يأتي في المرتبة الثالثة، وقيل في المرتبة الثانية قبل إجماع من بعد الصحابة صريحا، ولكن الأول أولى لاختلاف الفقهاء في حجيته، فقد ذهب الشافعية وغيرهم إلى أنه ليس حجة مطلقا -كما تقدم-، خلافا لإجماع من بعد الصحابة صريحا، فإنهم يحتجون به.
إجماع من بعد الصحابة y على أمر روي فيه اختلاف الصحابة، فإنه يأتي في المرتبة الرابعة، لأنه إجماع مختلف فيه على النحو المتقدم.
الإجماع الذي يبت فيه المجتهدون ثم يرجع أحد المجتهدين المجمعين عليه عن رأيه بعد ذلك، فإنه محل اختلاف بين الفقهاء، ولذلك كان في المرتبة الأخيرة من مراتب الإجماع.



مرتبة الإجماع من القرآن الكريم والســنة

تقدم معنا أن القرآن الكريم والسنة الشريفة هما المصدر الأول للتشريع، وأنهما في مرتبة واحدة من حيث حجيتهما، وإن كانت السنة الشريفة   تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث الحاجة إليها، ومن حيث ثبوت جزئياتها وتفصيلاتـها.
أما الإجماع فإنه يختلف عن السنة الشريفة في ذلك، فليس هو في مرتبتها ولا في مرتبة القرآن الكريم، بل هو في المرتبة الثانية بعدهما في أصل الحجيَّة، فلو تعارض إجماع وسنة قدمت السنة الشريفة من غير خلاف، والإجماع آنذاك باطل غير صحيح، لأن من شروط صحة الإجماع كما تقدم عدم معارضته للنصوص، قرآنا كانت أو سنة.






أهلية الإجمــاع

اشترط الفقهاء في الذين يقبل إجماعهم شرطين اثنين، هما:
الاجتهاد:
لأن الحكم المجمع عليه إما أن يكون دليله قطعيا أو ظنيا،  فإن كان دليله قطعيا فإنه يقبل فيه المجتهد وغير المجتهد، لأن هذا الحكم لا محل للاجتهاد فيه، إ ذ الاجتهاد محله الأدلة الظنية، أما الأدلة القطعية فلا محل للاجتهاد فيها،  لأن مخالفتها ممنوعة مطلقا، ولكن هذا ليس من باب الإجماع في شيء، لأن الحكم ثابت بالدليل القطعي الأول لا بالإجماع، فكان الإجماع وجوده كعدمه.
وإما أن يكون دليل الحكم المجمع عليه ظنيا، أي فيه مجال للاجتهاد والرأي، فهذا لا يقبل فيه إلا المجتهدون، لأنه لا عبرة برأي غيرهم.
وشروط الاجتهاد مبسوطة في كتب الأصول، ولا محل هنا لشرحها وتوضيحها.

-الخلو عن كل فسق أو بدعة، والفسق هو ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر، وهو مورث للتهمة مسقط للعدالة، أما البدعة فهي هنا كل جديد على الدين ليس على سَننه. والمبتدع على أحد شيئين، إما متعصب أو سفيه،  فإن كان وافر العقل عالما بقبح بدعته مصرا عليها فهو المتعصب، وإن كان غير وافر العقل، وغير عالم بقبح بدعته، فهو السفيه، والمتعصب ساقط العدالة غير مأمون، وكذلك السفيه، فإنه سيء التفكير، لأن السفه خفة واضطراب يحملانه على فعل ما يخالف للعقل، لقلة التأمل،  ولذلك لم يكن هذا من أهل الإجماع.






مصادر التشريع السنة المطهـــــرة

تعريفها:

السنة الشريفة في اللغة الطريقة المعتادة، حميدة كانت أو ذميمة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من سن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة،  ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)
والسنة في الاصطلاح الأصولي
ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير  القرآن الكريم من قول أو فعل أو تقرير
والسنة بهذا التعريف الاصطلاحي بينها وبين الحديث عموم وخصوص مطلق، إذ الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم أما السنة الشريفة  فقوله أو فعله أو تقريره، فكل حديث سنة ولا عكس، وقيل الحديث ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه y من قول أو فعل أو تقرير، أما السنة الشريفة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقط دون ما روى عن الصحابة، فإنه ليس بسنة، وعلى كل، فذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح.

هذا تعريف السنة الشريفة في اصطلاح الأصوليين، وهو مدار بحثنا هنا، أما السنة الشريفة في اصطلاح الفقهاء، فهي مرتبة بين الواجب والمباح،  وهي كل أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم وتركه أحيانا، أو فعله أحياناً وتركه في أكثر الأحيان،  أو هي الأمر المطلوب لا على سبيل الحتم، بحيث لا يعاقب تاركه بل يعاتب،  إلى غير ذلك من التعريفات الكثيرة التي يوردها الفقهاء في تعريف السنة الشريفة.

وكذلك تطلق السنة الشريفة في مقابلة البدعة، فتكون السنة الشريفة بهذا المعنى ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وقاله أو أقرّ عليه، أو ما كان على وفق ذلك، والبدعة ما كان منافيا له. 






أنواع السنة الشريفة

من تعريف السنة الشريفة لسابق عند الأصوليين نلاحظ أنها أقسام ثلاثة، هي:
السنة القولية والسنة الفعلية – والسنة التقريرية.

فالسنة القولية: هي كل ما نقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله الشريفة، وهي كثيرة تكاد لا تدخل تحت الحصر، ذلك أن الصحابة y كانوا يرافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلواته وجلواته، وكانوا يعنون عناية فائقة في حفظ كلامه واستذكاره وروايته، لعلمهم بأنه أصل من أصول هذه الشريعة، حتى إن بعضهم كان يدون عنه كل ما يقول، من أمثال عبدالله بن عمرو t، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقره على ذلك، ومن أمثلته قول النبي صلى الله عليه وسلم(إنما الأعمال بالنيات) البخاري
وقوله صلى الله عليه وسلم(بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان) البخاري 
وغير ذلك.

والسنة الفعلية: هي كل ما رواه الصحابة الأجلة عن أفعاله صلى الله عليه وسلم وأعمال وعبادته وكل تصرفاته، فقد أحصوا – لشدة حرصهم – أفعاله كلها ونقلوها لنا، من ذلك كيفية وضوئه وصلاته وصومه وتهجده،  ومعاملته لنسائه، وأقاربه وصحابته وغير ذلك ويعرف فعله صلى الله عليه وسلم بقول الصحابي: (فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا).

والسنة التقريرية: هي أن يقال قول أو يفعل فعل أمام النبي صلى الله عليه وسلم أو أمام غيره فيراه أو يسمع به فيسكت عنه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مشرِع لا يجوز سكوته على معصية، ولذلك يعتبر سكوته عن هذا الفعل أو القول إقرارا بمشروعيته، أي إن سكوتهصلى الله عليه وسلم بمثابة قوله: (هذا حلال أو هذا مشروع)، وإذا كان ذلك كذلك كان سنة، ومن باب أولى ابتسامته واستبشاره واستحسانه للفعل أو القول الذي جاء بين يديه، فإنه دليل على رضاه عنه وإقراره لمشروعيته أيضا
فمن أمثلة النوع الأول قول أحد الصحابة: (أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلمفلم يأكل منه ولم ينهنا عن أكله) رواه الترمذي
ومن النوع الثاني ما روي من سؤاله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل t عندما أرسله إلى اليمن  قاضيا، حيث قال له: بم تقضي يا معاذ؟ قال بكتاب الله،  قال فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي الله ورسوله) الترمذي
 فهذا الاستحسان دليل الرضا والإقرار لما ذهب إليه معاذ.


مراتب السنة الشريفة من حيث ثبوتها

القرآن الكريم كله متواتر بجملته وتفصيله، ولذلك لا محل لتفصيل مراتبه من حيث الثبوت، فإنه في مرتبة واحدة هي مرتبة القطع واليقين، إذ هو حكم التواتر.
أما السنة الشريفة، فهي متواترة بمجموعها، بمعنى أنه تواتر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صدرت عنه سنة هي أقوال وأفعال وتقريرات،  ولكن مفردات السنة الشريفة وتفصيلاتها ليست متواترة كلها، بل فيها المتواتر، وفيها ما هو دون ذلك، ولذلك قسمها الأصوليون إلى أقسام ومراتب تبعاً لطريق ثبوتها ودرجته.
فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أنها من حيث ثبوتها على مرتبتين:  السنة المتواترة، والسنة الآحادية، وذهب الحنفية إلى أنها على ثلاث مراتب، هي: السنة المتواترة، والسنة الآحادية، والسنة المشهورة، وهي مرتبة ثالثة بين التواتر والآحاد.

السنة المتواترة:
التواتر في اللغة التتابع، وفي اصطلاح الأصوليين ما رواه قوم عن قوم يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، وقد بينا في تعريفنا للقرآن وتحليلنا له شروط التواتر وأركانه، فلا حاجة إلى إعادة ذلك هنا.
وعلى ذلك فالسنة المتواترة هي: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التي وردت إلينا مستوفية شروط التواتر من حيث سندها
والسنة المتواترة قليلة جداً بشكل إجمالي، وهي في أفعاله أكثر منها في أقواله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن السنة الشريفة القولية المتواترة قليلة جداً، وهنالك كتب كثيرة عنيت بجميع السنة الشريفة المتواترة.
ومن السنة الشريف القولية المتواترة قول النبي صلى الله عليه وسلم  : (لا وصية لوارث) فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه متواتر السند في المعنى.
ومن السنة الشريفة الفعلية المتواترة كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وحجه صلى الله عليه وسلم ، فقد رويت لنا كل أفعاله تلك بأسانيد متواترة.

السنة المشهورة:
المشهور في تعريف الحنفية هو: ما تواتر في القرنين الثاني والثالث وكان آحادياً ـ أي لم يبلغ حد التواتر ـ في القرن الأول، وهو فوق الحديث الآحادي من حيث الثبوت وليس مثله كما سوف يأتي.
وهذا هو مذهب الحنفية، أما الجمهور فإنهم يدخلونه في حديث الآحاد. 

السنة الآحــادية:
وهي ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد أو أكثر لم يبلغوا حد التواتر في كل القرون، فمن بلغ عدد رواته حد التواتر في أحد القرون دون القرون الأخرى فهو آحادي. هذا عند الجمهور، أما على مذهب الحنفية فالآحادي عندهم ما لم يبلغ مرتبة التواتر في القرنين الثاني والثالث فقط، دون القرن الأول،  فلو بلغ عددهم مرتبة التواتر في القرنين الثاني والثالث دون الأول فإنه مشهور وليس بأحادي كما تقدم.

مراتب العلم المستفاد من السنة الشريفة :
يحدد الفقهاء والأصوليون للعلم مراتب أربعة هي: القطع أو اليقين،  والظن،  والشك، والوهم.

فالقطع واليقين: ما كان العلم فيه جازماً لا احتمال معه للنقيض مطلقاً.

والظن: ما كان جانب الإيجاب فيه راجحا على جانب السلب،  أي إن احتماله للنقيض مرجوح لا راجح.

والشك: ما تساوى فيه جانب الإيجاب مع جانب السلب،  أي تساوى فيه احتمال الشيء ونقيضه.

والوهم: ما كان جانب السلب فيه راجحاً على جانب الإيجاب، وكان احتمال النقيض فيه غالباً.

هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فيضيفون إلى ذلك مرتبة خامسة وسطاً بين اليقين والظن هي مرتبة طمأنينة الظن، وهي ما كان جانب الإيجاب فيها راجحاً رجحانا كبيراً يقربه من اليقين.
هذا والأصوليون متفقون على أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بطريق القطع أو الظن، فقط، أما الشك والوهم فلا يجوز أن تدار الأحكام عليهما بحال.

وقد قسم جمهور الأصوليين السنة الصحيحة بحسب طرق ثبوتها إلى مرتبتين وهما: التواتر الآحاد، وقالوا: الحديث المتواتر يفيد القطع أي العلم اليقيني، أما السنة الآحادية فإنها تفيد الظن، وذهب الحنفية إلى زيادة الحديث المشهور بين المتواتر والآحادي وقالوا إنه يفيد طمأنينة الظن وهي مرتبة فوق الظن ودون اليقين، هذا من حيث الثبوت فقط، لأن الحديث المتواتر قد يفيد الظن فقط دون اليقين إذا كان ظني الدلالة،  ولكننا نحن الآن نقرر الأحكام الثابتة على فرض أن هذه الأحاديث قطعية الدلالة،  فإذا كانت ظنية الدلالة فإنها تنزل بمرتبة العلم المستفاد من الحديث المتواتر أو المشهور إلى الظن، لهذه الظنية في الدلالة، لا لطريقة الثبوت، وهذا بحثا آخر يتعلق بباب الدلالات.







حجية السنة الشريفة 

السنة الشريفة دليل أصلي من أدلة التشريع الإسلامي، وقد ثبتت حجيتها بالقرآن والسنة والإجماع والعقل.

أما الكتاب:
فآيات كثيرة تدل على أن الله فرض علينا اتباع النبي  صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله ويفعله ويقره من الأعمال والتصرفات،  من ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)
وقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80)
فإن في هاتين الآيتين الكريمتين أمر صريح وبيان واضح بأن طاعة الله وطاعة الرسول شيء واحد لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، وما طاعة الله إلا اتباع كتابه، وما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إتباع سنته، وقد أثبتنا حجية الكتاب قبل قليل، فلم يبق إلا اعتبار السنة الشريفة حجية بدلالة ذلك، ثم قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36)
وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)
فإن في هاتين الآيتين إلزام من الله تعالى باتباع حكم النبي  صلى الله عليه وسلم ، وما الحكم إلا جزء من أقواله أو أفعاله صلى الله عليه وسلم ، وهو  من السنة الشريفة.
قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:3-4))
فيه دليل على أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من السنة الشريفة إنما هو وحي من عند الله تعالى، وما كان من عند الله واجب الاتباع، لأن الله هو المشرع. فلذلك كانت السنة الشريفة واجبة الاتباع، فإن قيل: إن كانت السنة الشريفة وحياً فما الفرق بينها وبين القرآن الكريم، أجيب بأن القرآن الكريم جاء عن طريق الوحي بلفظه ومعناه، أما السنة الشريفة فمعناها من الله تعالى، أما ألفاظها فمن النبي صلى الله عليه وسلم
فإن قيل: فما الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي، إذ الحديث القدسي معناه من الله تعالى ولفظه من النبي صلى الله عليه وسلم ، أجيب عنه أيضاً، بأن الحديث القدسي ألقي معناه في روع النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي المباشر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بهذا المعنى أحيانا فيقول: (نفث في روعي ) أما الحديث النبوي فمعناه من الله تعالى عن طريق التسديد لا عن طريق الوحي المباشر، ومثل هذه الآيات الدالة على حجية السنة الشريفة كثير في القرآن الكريم.

وأما السنة الشريفة:
فأحاديث كثيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير فيها بصراحة إلى أن طاعته واجبة، وأن أمره إنما هو من الله سبحانه وتعالى، منها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (تركت فيكم أمرين ما إن اعتصمتم بهما فلن تضلوا أبدا،  كتاب الله وسنة نبيه) رواه مالك في الموطأ
فإن في هذا القول النبوي الكريم تسوية بين  القرآن  الكريم  والسنة الشريفة في الحجية.
2- ما رواه المقداد بن معديكرب من قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه،  وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا من بلغه عني حديث كذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه)، فإن هذا الحديث الشريف نص في الباب.
3- حديث معاذ بن جبل المتقدم في تعريف  السنة الشريفة التقريرية المتضمن معنى قوله: (أقضي بالقرآن ثم بالسنة ثم اجتهد رأيي)، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله، فإن في هذا إقراراً صريحاً بحجية  السنة  الشريفة  .

وأما الإجماع:
فهو ما ثبت لدينا بطريق لا شبهة فيه من أن الصحابة كانوا يلتزمون سنته صلى الله عليه وسلم وقضاءه في حياته،  ولا يخالفونه في شيء، ولا يطلبون منه دليلاً غير قوله وفتواه، والتزامهم بهذا المبدأ بعد وفاته، فإنهم كانوا إذا لم يجدوا في القرآن الكريم بغيتهم لجؤوا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم يتساءلون فيما بينهم هل روي عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحادثة شيء؟ هل قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الأمر بشيء؟ فإن وجدوا قضوا بما قضى به رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجدوا أعملوا عقولهم وقاسوا هذا الأمر على الأمور الأخرى المنصوص عليها في القرآن الكريم أو السنة الشريفة   وقد عُلم ذلك منهم دون معارضة أو منازعة ممن له رأي معتبر، فكان ذلك إجماعاً.

وأما المعقول:
فانه يتجلى في عدة أمور أهمها:
أ) كثير من الأحكام التي وردت في القرآن الكريم جاء مجملاً أو عاماً أو مطلقاً أو مشتركاً، وهذا كله يحتاج إلى بيان لمجمله ومشتركة، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعامه، إذا المعنى المراد منه لا يفهم إلا بذلك، والسنَّة هي التي تولت هذه المهمة، مهمة البيان بأمر الله تعالى حيث قال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44)
فكانت السنة الشريفة محتجاً إليها لفهم الكتاب، وقد اعتبرنا الكتاب حجة واتباعه واجبا فيما مضى، وما كان محتاجاً إليه لفهم الكتاب الذي هو مصدر الأمر والنهي الواجب الاتباع فهو واجب، لأن القاعدة الأًصولية تقول:مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب) إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ القرآن الكريم وبيانه معاً، لأن التبليغ لا يتم إلا بالبيان والتبليغ كان بتلقين آيات القرآن، أما البيان فكان بالسنة المطهرة الموضحة له، وقد قامت الأدلة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ في التبليغ والبيان معاً والسهو فيهما، من مثل قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)
وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)
وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)، وغيرها.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الناس ممن سفهوا عقولهم،  ذهبوا إلى أن السنة الشريفة ليست بحجَّة، واستندوا في دعواهم هذه إلى أمور حسبوها أدلة وما هي إلى أوهام وشكوك، ولذلك رأيت أن أصرف النظر عنها ولا أتعرض لذكرها،  سيما وهي موضحة ومشار إليها في كتب الأصول، ويستطيع الاطلاع عليها كل من أراد ذلك،  ثم إنها أتفه من أن تبحث أو يتعرض لها.




مرتبة السنة الشريفة من الكتاب الكريم في الحجيَّة

السنة حجة وواجبة الاتباع للأدلة المتقدمة، ولكن هل هي في مرتبة  القرآن الكريم، أم هي في مرتبة أدنى منه؟.
والجواب أن السنة الشريفة ن حيث مصدريتها للأحكام الشرعية تعد في مرتبة القرآن الكريم تماما، إذ هي دليل قاطع على حكم الله تعالى سبحانه ما دامت صحيحة بالنسبة إلى النبيصلى الله عليه وسلم  لما تقدم من الأدلة، فلا فرق والحال هذه بين حكم الله تعالى الذي ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم  بلفظه ومعناه (القرآن الكريم) وبين حكم الله الذي ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم  بمعناه دون لفظه (السنة الشريفة)، ما دام مصدر الحكم في الحالتين هو الله تعالى، ولذلك أجاز جمهور الفقهاء نسخ السنة الشريفة بالقرآن الكريم، ونسخ القرآن الكريم بالسنة الشريفة، أما الشافعية فقد خالفوا ذلك ولم يجيزوا نسخ  القرآن الكريم بالسنة، ولكن هذه المخالفة ليست بسبب نزول السنة الشريفة ن مرتبة القرآن عندهم، بدليل أنهم لم يجيزوا نسخ السنة الشريفة   بالقرآن الكريم أيضاً، ولكن لأن كلا من السنة الشريفة والقرآن الكريم مصدر مستقل بذاته. والنسخ يقتضي رجحان الناسخ على المنسوخ، ولا رجحان هنا لأحدهما على الآخر فلا ينسخ به.
وهذا بطبيعة الحال إذا تساوت السنة الشريفة  بالقرآن الكريم من حيث الثبوت، بأن كانت السنة الشريفة متواترة، إذ القرآن الكريم متواتر كله جملة وتفصيلاً، أما السنة الشريفة   الآحادية، فهي في مرتبة دون القرآن الكريم بالإجماع، ولكن لا لأنها سنة بل لأنها دون مرتبته في الثبوت، فهو متواتر قطعي وهي آحادية ظنية.
هذا من حيث مصدرية السنة الشريفة للأحكام، أما من حيث الحاجة إليها في استيفاء الأحكام، فهي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم،  ذلك لأسباب عدة أهمها:

أ) القرآن الكريم قطعي الثبوت كله بالإجماع، أما السنة الشريفة  فهي آحادية ظنية الثبوت في معظمها، إذا المتواتر منها بقليل، وحتى في هذا القليل تختلف أنظار الفقهاء، حتى يكاد لا يخلو حديث متواتر واحد من الاختلاف في تواتره بين الفقهاء، وما كان قطعي الثبوت بالإجماع لاشك أولى بالتقديم في الرجوع إليه من المختلف على قطعيته  

ب) السنة الشريفة  :بينة للكتاب وشارحة لنصوصه، فهو على ذلك أصل بالنسبة لها، وهي له تبع، وطبعي أن يحتاج إلى الأصل قبل التبع،  ثم إنه لو سقط المبيَّن لسقط البيان ولا عكس، ولذلك كانت بعده.  

ج) ما جاء في حديث معاذ بن جبل حينما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم  إلى اليمن، فقد قدم القرآن الكريم على السنة الشريفة وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم  فكان ذلك دليلا على تقديم  القرآن الكريم عليها، ولكن ينبغي أن ينحصر هذا التقديم في الحاجة إليها فقط، ولا يتعداه إلى مصدريتها، لأنها في ذلك في مرتبة تساوي  القرآن الكريم تماما كما تقدم.

د) القرآن الكريم محصور في نصوص محدودة يسهل الرجوع إليها واستقصاؤها، أما السنة الشريفة فغير محصورة، بل هي واسعة جدا، فكان في تأخير الرجوع إليها بعد  القرآن الكريم وجها مقبولا، هذا ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أكثر الأصوليين ساروا على أن  السنة الشريفة   في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم دون تفصيل، ولا بد من حمل قولهم هذا على الوجه الثاني دون الأول كما أوضحت، وأن تغاضيهم عن هذا البيان والتفصيل إنما كان للعلم به لا لإنكاره، فيتنبه له.

شروط حجيِّة السنة الشريفة  :
السنة الشريفة حجة كما تقدم،  سواء أكانت قولية أم فعلية أم تقريرية،  ولكن هذا ليس على إطلاقه، فإن تصرفاته صلى الله عليه وسلم  الفعلية أو القولية أو التقريرية تنقسم إلى قسمين:
قسم يفعله بصفته التشريعية التبليغية عن الله تعالى، وقسم يفعله بصفته البشرية الجبلية،
فمن القسم الأول كل ما يتعلق بالأحكام والحلال والحرام، ومن القسم الثاني كل الأمور الخاصة به التي مبناها على الجبلة والطبيعة البشرية كطريقته صلى الله عليه وسلم  في نومه ومشيته ولباسه وترتيبه للجيوش وتنظيمه لأثاث بيته وغير ذلك.
فما كان من القسم الأول فداخل في نطاق التشريع والإلزام، ويعد مصدرا أصليا للشريعة الإسلامية لما تقدم.
وما كان من القسم الثاني فإنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم  لا إلزام ولا حجية فيه على أحد، ولذلك فإننا نرى الفقهاء يستثنون من السنة الشريفة الملزمة أمورا ثلاثة لا يعتبرون فيها حجية ما. وهذه الأمور هي:

1-      والأعمال التي يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم  بمقتضى طبيعته البشرية، وجبلته الإنسانية، كطعامه وشرابه وقيامه وقعوده ومشيته ولباسه وغير ذلك.
2-      الأقوال التي تصدر عنه بمقتضى خبرته الإنسانية غير المعتمدة على الوحي وغير المتصلة بالأمور التشريعية، كصف الجيش، وطبخ الطعام وغيره، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم  في غزوة بدر أنه صف الجيش على شكل معين وفي موضع محدد،  فسأله أحد الصحابة وهو الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلك الله إياه ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم  : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: إذا ليس لك هذا بمنزل، وأشار بتغييره، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم  على ذلك، فدل هذا على أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم  أولا ليس بتشريع ملزم، وكذلك حادثة تأبير النخل، وقول النبي صلى الله عليه وسلم  لهم ثانيا: أنتم أعلم بأمور دنياكم، دليل على ذلك أيضا، لأن هذه الأمور تقوم على الخبرة الإنسانية المجردة عن الوحي، ونحن إنما اعتبرنا السنة الشريفة حجة لاستنادها إلى الوحي فلما انفصلت عنه لم يعد فيها حجية.
3-     ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم  من قول أو فعل وقام دليل خاص على اعتباره خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم  لا يعم غيره، فإنه لا يعتبر تشريعا لعامة المسلمين لهذا الدليل، من ذلك إباحة الله له التزوج بأكثر من أربع نسوة مع تحريم ذلك على المؤمنين بنص القرآن الكريم، أو قام الدليل على اعتباره خاصا بحالة واحدة، كشهادة خزيمة.
فما عدى هذه الأمور الثلاثة فهو سنة ملزمة للمؤمنين،  وهو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي الأصــلية.





مكانة السنة من القرآن من حيث طريقتها في التشريع

السنة كما قدمنا تبع للقرآن، فهي مبينة لنصوصه وشارحه لمجمله وعامه ومطلقه، ولكننا في بعض الأحيان نجدها مؤكدة لما جاء في القرآن  الكريم دون زيادة عليه أو إنقاص منه، ونجدها أحيانا تأتي بأحكام جديدة لم يتعرض لها القرآن الكريم أبدا، وعلى ذلك فإننا يمكن أن نلاحظ أن نسبة السنة الشريفة إلى القرآن الكريم من هذا الوجه تتجلى في أربعة أمور هي:

1 - أن تكون مفسرة لما جاء في الكتاب الكريم مجملا أو مشتركا

أو مقيدة لما جاء مطلقا،  أو مخصصة لما جاء عاما،وهذه هي المهمة الأصلية للسنة المطهرة.
فمن تفسير المجمل قول الرسول e : (صلوا كما رأيتموني أصل)، فإن فيه بيانا لقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)، فإنه مجمل.
ومن بيان المشترك تفسير النبي e القرء بالحيض في أحاديث أثبتها الحنفية ولم يسلم الشافعية بثبوتها، ومن تخصيص العام قول النبي e: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها)، فإنه مخصص لعام قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)(النساء:24).
ومن تقيد المطلق قطعه e يد السارق اليمنى من الرسغ، فإنه مقيد لقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(المائدة:38).

2 . أن تكون مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم

فتكون بذلك دليلا ثانيا للحكم بعد القرآن الكريم، ومن هذا القبيل قوله e: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) فإنه تأكيدا لقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188).

3 . أن تثبت حكما زائدا على القرآن الكريم

سكت عنه، ولم يتعرض له ولم ينص عليه، مثل قوله e للمدعي: (شاهداك أو يمينه) ، ومنه قضاؤه e بالشاهد واليمين .. فإنها نصوص نبوية مثبتة لأحكام سكت عنها القرآن الكريم.

4 .  أن تنسخ حكما جاء به القرآن

وهذه نقطة خالف فيها الشافعية جمهور الفقهاء، حيث لم يجيزوا نسخ القرآن الكريم بالسنة كما تقدمت الإشارة إليه، ولكن يقولون إن السنة الشريفة في هذه المواضع معرفة لدليل النسخ لا ناسخة، فإن نسخ  القرآن الكريم لا يكون إلا بالقرآن، والأمر مبسوط في كتب الأصول، ومن أمثلة نسخ  القرآن الكريم بالسنة على مذهب الجمهور قول النبي: e (لا وصية لوارث)، فإنه ناسخ لقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:180)

 وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن الشافعية لا يريدون بمنعهم نسخ  القرآن الكريم بالسنة، النزول بالسنة عن القرآن الكريم واعتبارها مصدرا من الدرجة الثانية بعده، بل إنهم يعتبرونها بمرتبة القرآن الكريم تماما مشيا مع الجمهور، وقولهم بعدم نسخ القرآن الكريم بها كان لاعتبارات أخرى غير نزولها عن مرتبة القرآن الكريم، بدليل أنهم لم يجيزوا نسخ السنة الشريفة بالقرآن أيضا، ولو كان الأمر هو نزول السنة الشريفة عن القرآن الكريم لديهم لقالوا بنسخها بالقرآن، لأن الأعلى يصلح ناسخا للأدنى، ولكنهم لم يقولوا بذلك.







مصادر التشريع القرآن الكريـــم

تعريفـــه:
الكتاب في أصل اللغة الفرض والحكم الواجب، ومنه قول تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103)، أي فرضا مؤقتا، وهو من باب نصر. ويطلق أيضا على كل ما يكتبه الشخص ويرسله، فهو في اللغة يعم كل كتاب.
والكتاب في تعريف الأصوليين خاص بما أنزل من عند الله تعالى على سيدنا محمد e ، ويعرفونه بأنه: (اللفظ العربي  المعجز بسورة منه المنزل وحيا على سيدنا محمد e المنقول إلينا متوترا بلا شبهة المحفوظ في المصاحف المتعبد بتلاوته).

تحليل التعريــف:
اللفظ العربي: فيه إشارة إلى أن القرآن هو اللفظ والمعنى، وليس المعنى فقط، وعلى ذلك إجماع العلماء، إلا مما نقل عن أبي حنيفة أنه لم يجعل النظم (اللفظ) ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة، بل اعتبر المعنى فقط. حتى لو قرأ المصلي بغير العربية في الصلاة من غير عذر جازت صلاته عنده،  لكن الأصح أن الإمام أبا حنيفة رجع عن هذا القول إلى رأي الجمهور، فجعل القرآن الكريم هو اللفظ والمعنى في حق الصلاة وغيرها على حد سواء. ولذلك لا يسمى ما ترجم من القرآن إلى أي لغة أخرى غير العربية قرآنا على هذا التعريف المتفق عليه لدى المسلمين، ولكن تفسيرا له.
المعجز بسورة منه: العجز في اللغة الضعف، وأعجزه وجده عاجزا،  ومنه المعجزة لما تظهره من عجز الآخرين وقصورهم عن الإتيان بمثلها، والمعجزة في الاصطلاح الأمر الخارق للعادة،
ولا بد عند الأصوليين لتحقق الإعجاز من توفر شروط ثلاثة، هي:

1-   التحـدي: بأن يكون الأمر الخارق للعادة مصحوبا بالتحدي للخصم أن يأتي بمثله،  وإلا لم يكن معجزة، فيخرج بذلك كل أنواع الكرامات التي تظهر على أيدي الصالحين، لأنها غير مصحوبة بالتحدي.
2-   المقتضى : بأن يكون أمام الخصم دافع لمضاهاتها والإتيان بمثلها،  فلو كان الخصم غافلا عنها غير مجتهد في الإتيان بمثلها لم تكن معجزة في حقه،  لأن العجز لا يظهر إلا عند التصدي أو مكان التصدي للمضاهاة.
3-   انتقاء المانع: وذلك بأن لا يكون أمام الخصم أي مانع من مضاهاتها إلا عجزه المطلق،  فلو كان الخصم لم يسمع بها أو لم يفهمها، فإنها لا تعتبر معجزة في حقه، لأن عجزه لا يثبت هنا مع قيام المانــع.

وقد تحقق للقرآن الكريم هذه الشروط الثلاثة:
فأما التحدي، ففي أكثر آية من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)، وأي تحد أشد من هذا التحدي.
وأما المقتضى، فهو متوفر أيضا، يدل عليه رغبة المشركين الأكيدة في تكذيب محمد e وإظهار عجزه، لما جاء به من نقض لمبادئهم وعقائدهم الفاسدة ، ومن ذلك حرصهم الشديد على قتله e وإيذائه، وتجربتهم الفعلية في مضاهاته ثم اعترافهم بفشلهم في هذه التجربة، ثم قول أمية بن خلف عندما أرسلوه ليفاوض النبي e على ترك الدعوة التي يدعوا إليها حيث قال يصف القرآن الكريم: (إن له لحلاوة،  وإن عليه لطلاوة،  وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر)، وأمية هو من هو في فصاحته ومعرفته باللغة العربية وأساليبها.
وأما زوال المانع، فهو موجود أيضا في القرآن الكريم، لأنه بلغتهم نزل، وبين أظهرهم انتشر، وهم العرب الأقحاح الذين بلغوا الشأو في الفصاحة واللسن،  فأي مانع كان يحول بينهم وبين مضاهاته إلا عجزهم عن ذلك،.
وهنا لا بد من التنبيه إلى بطلان الصرفة التي ذهب إلى القول بها بعض الناس، حيث قالوا إن إعجاز القرآن ليس ذاتيا فيه، ولكنه بصرف العرب عن مضاهاته، فهو في ذاته غير معجز، وهو في مستطاع للبشر، بل لا بد من اعتباره كذلك ليكون مفهوما لهم وواضحا أمام عقولهم ضرورة التمكن من تطبيقه والاستفادة منه، إنما هو كامن وراء صرف الله العرب عن مضاهاته، وردهم عن مجاراته.
هذا القول باطل رده جمهور العلماء، وأثبتوا للقرآن إعجازا ذاتيا على الشكل المتقدم. وردوا على ما احتج به أهل الصرفة من أن ذلك كان منهم لضرورة فهم النصوص وتطبيقها، بقولهم: إن الإعجاز ليس معناه انغلاق الفهم، بل الإعجاز لا يكون إلا بعد الفهم الكامل للمعجزة، وليس العجز عن مجاراة الشيء عجزا عن فهمه بحال، فكم هنالك من نقاد للشعر برزوا في نقدهم له ولم يتقنوا فن الشعر ولم يستطيعوه، ولم يعتبر ذلك منهم عيبا في نقدهم أو فهمهم للشعر.
وإما تقييد الأصوليين الإعجاز بسورة منه، فلأن الحرف أو الكلمة أو مادون السورة ليس بمعجز، والمقصود بالسورة أقصر سورة منه، وذلك لأن التحدي كان بذلك، فإن الله تعالى تحداهم أولا بأن يأتوا بمثله كله، ثم تحداهم بعشر سور منه،  ثم تحداهم بسورة واحدة منه، كما جاء في سورة البقرة المتقدمة،  وأما ما دون السورة فإنه ليس بمعجز، بل هو ممكن التقليد عقلا، ولأنه لا تحدي فيه.

المنزل وحيا على محمد e ، يخرج بهذا القيد السنة الشريفة   النبوية، فإنها ليست وحيا إذ المقصود بالوحي هنا الوحي الظاهر، فإن قيل خرجت بقولنا اللفظ المعجز إذ لا إعجازا في السنة الشريفة  ، قلنا المراد بهذا القيد هنا بيان المنشأ والمصدر في القرآن، لتطمئن النفس إليه، وليكون زيادة تأكيد على الفصل بين ما هو قرآن وما هو سنة.

المنقول إلينا متواترا: يخرج بهذا القيد  كل القراءات الشاذة والآحادية والمشهورة، لأنها لم ترد إلينا بالتواتر، وهي الروايات فوق السبعة أو العشرة المتواترة.

ولصحة التواتر شروط ثلاثة، هي:

1-   أن يبلغ عدد الرواة حدا يحيل العقل معه تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وتعدد مشاربهم ونزعاتهم وغير ذلك، فلو رواه قلة من الناس لا يكون تواترا، وكذلك لو رواه كثرة من الناس ولكن العقل لا يحيل تواطؤهم على الكذب رغم كثرتهم،  فإنه لا يكون تواترا أيضا، كرواية أصحاب هوى معين شيئا يتعلق ببدعتهم أو هواهم وغير ذلك، أما العدالة واختلاف البلد فليسا شرطا، بل لو أخبر أهل بلدة كافرة بموت ملكهم فإنه يعتبر خبرا متواترا به علم يقيني بموت ملكهم.
2-   أن يتوفر هذا العدد في القرون كلها،  فلو روى الخبر جماعة بلغت حد التواتر في القرن الأول وما بعده إلا الثاني،  أو بلغت حد التواتر في القرنين الأول والثاني دون ما بعدهما، فليس متواترا، على خلاف ما لو بلغ الرواة حد التواتر عددا في القرن الثاني وما بعده دون القرن الأول، فإنه ليس متواترا أيضا،  ولكن الحنفية أفردوه باسم مستقل به وهو  (المشهور)، وجعلوه مرتبة ثالثة وسطا بين المتواتر وخبر الآحاد،  خلافا للجمهور الذين لم يفرقوا بينه وبين الآحاد واعتبروهما واحـدا.
3-       
وأما العدد المشروط للتواتر فلم يتفق عليه الأئمة، فمنهم من ذهب إلى أنه خمسة، ومنهم من قال اثنا عشر أو عشرون أو أربعون أو خمسون،  أقوال متعددة كلها لم يشهد لها دليل، والأصح أن العدد فيه غير محدود بحد معين، بل أمره متروك للعقل، فكل عدد أحال العقل التواطؤ على الكذب معه فهو متواتر، ومالا فلا، وهو أمر يختلف باختلاف قرائن الأحوال.
3- أن يكون الخبر معتمدا على الحس من سمع وغيره، فإن كان مستندا إلى العقل لم يعتبر متواترا بحال مهما بلغ عدد رواته، ما لم يقم برهان آخر عليه.

بلا شبــهة: هذا قيد وضعه الحنفية ليخرجوا به الحديث المشهور، فإن المشهور عندهم ما تواتر في القرنين الثاني والثالث وما بعدهما، وكان آحادا في القرن الأول،  فإنه في مرتبة بين المتواتر والآحادي كما تقدم، خلافا للجمهور الذين لا يعتبرون للخبر إلا مرتبتين فقط، همـا: التواتر والآحاد،  ولكن المشهور يخرج بالقيد الأول وهو التواتر، إذ المتواتر ما استوفي فيه العدد في القرون كلها معا، وليس المشهور عند الحنفية كذلك، فلا حاجة إلى هذا القيد،  ولذلك فإنه يعتبر قيد اتفاقيا لا احترازيا،  ومن المشهور في القرآن -على تعريف الحنفية له-القراءات الثلاثة بعد السبعة المكملة للعشرة، فإنها مشهورة وليست متواترة، وهنالك من الفقهاء من يعتبرها متواترة أيضا.

المحفوظ في المصاحف: هذا القيد يخرج ما نسخ لفظه وبقي حكمه من القرآن، من أمثال قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله) فإنه ليس من القرآن لعدم وروده في المصحف، والمقصود هنا بالمصاحف،  المصاحف التي كتبت في عهد عثمان t،  وأجمع المسلمون على صحتها، فلا يدخل فيها المصاحف الخاصة ببعض الصحابة، كمصحف أبيِّ بن كعب، ومصحف ابن مسعود وغيرهما y ، فإن فيها تفسيرات ليست من القرآن، وأل هنا للعهد، والمقصود بها مصاحف عثمان كما تقدم.

المتعبد بتلاوتـــه: يخرج بهذا القيد جميع أنواع السنة الشريفة  ، ومنها الحديث القدسي، وهو وإن كان خارجا عن القرآن بقولنا المعجز، لأن الحديث القدسي غير معجز، لأن لفظه من النبي e إلا أن فيه زيادة توضيح وإشارة خاصة إلى مزية هامة في القرآن الكريم وهي التعبد بتلاوته.

شروط القرآنيــة:
من خلال التعريف المتقدم للقرآن الكريم وتحليله نستطيع استخلاص شروط ثلاثة للقراءة الصحيحة المعتبرة قرآنا، وهي:
أ - التواتر: وقد تقدم معناه وشروطه،  فأما القراءة المشهورة فلا تعتبر قرآنا، ولذلك لا تصح بها الصلاة،  أما الاحتجاج بها، فقد اختلف فيه الفقهاء:
فذهب الجمهور إلى أنها لا حجية فيها، وذهب الحنفية إلى أنها تعتبر في رتبة الحديث المشهور، فتفيد غلبه الظن،  لأنها إن سقطت قرآنيتها فلا أقل من أن تعتبر بمثابة الحديث المشهور، من ذلك ما جاء في مصحف ابن مسعود t من قوله تعالى في كفارة اليمين: (ثلاثة أيام متتابعات)، فإن لفظ متتابعات مشهور وليس بمتواتر، ولذلك فإن الحنفية يشترطون في كفارة اليمين التتابع خلافا للجمهور.

ب - موافقة رسم المصحف: أي المصحف الذي كتب في زمن عثمان t، والموافقة المشروطة هنا هي الموافقة بالجملة، ولا تضر المخالفة في بعض الحروف أو الحركات، فإنها محتملة.

ج- موافقة اللغة العربية ولو بوجه: لأن القرآن نزل عربيا، فلا يكون منه ما فيه لحن أو عجمة بحال، وقد رد الشافعي t على من قال بأن في القرآن العربي والأعجمي بردود قاطعة، وأثبت أنه عربي محض وليس فيه من لغة غير العرب شيء مطلقا،  ولكن نظرا لتعدد لغات العرب ولهجاتهم، ولاحتمال القرآن كل هذه اللهجات بالجملة نظرا لنزوله على سبعة أحرف، فقد اكتفى الفقهاء بموافقة النص القرآني اللغة العربية ولو بوجه فقط.

حجيتــه:
نقصد بكلمة الحجية الدلائل والبراهين التي تثبت أن القرآن الكريم كلام الله تعالى وأنه ممثل حقيقي لأمر الله ونهيه، ليكون حجة ومصدرا من مصادر هذه الشريعة السمحة، لأننا إذا استطعنا وصل القرآن بالله، وإثبات أنه كلامه تعالى،  استطعنا إقامته حجة ودليلا من أدلة التشريع.


وقد ثبتت حجية القرآن الكريم بأدلة كثيرة منهــا:
1-   إعجازه، فالقرآن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة تحدى بها العلمين فعجزوا عن الإتيان بمثلها، وقد ثبت للقرآن كل شروط المعجزة كما تقدم في تحليل تعريف القرآن الكريم. فإذا كان القرآن الكريم معجزا للبشر كان معنى ذلك أنه ليس في مقدور أحد منهم أنى كان الإتيان بمثله، وإذا كان الأمر كذلك فهو من الله جل وعلا،  بالتالي هو حجة تشريعية.
وللإعجاز القرآني أوجه كثيرة مبسوطة في كتب علوم القرآن الكريم لا محل هنا لتفصيلها. لأنها أدخل في مقرر علوم القرآن الكريم منها في مقرر أصول الفقه.
2-   ما جاء في آيات القرآن الكريم نفسه مما يدل على أنه من الله مثل قوله تعالى:  (إنا نحن نزلنا عليك القرآن الكريم تنزيلا) وقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

طريقة نزولـــه:
لم ينزل القرآن الكريم على النبي e دفعة واحدة، وإنما أنزل عليه منجما على طول اثنتين وعشرين سنة تبعا للحوادث والوقائع،  فكانت كلما جدت حادثة أو سئل النبي e سؤالا، أو حدثت مشكلة تحتاج إلى حل ينزل الوحي على النبي e بالآيات التي تتضمن الحل لهذه المشكلة.
وقد أوضح الله تعالى الغاية من تنزيل  القرآن الكريم منجما جوابا على سؤال الكفار واعتراضهم على هذه الطريقة، فقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان:32)، فالغاية من التنجيم إذا هي أمران، هما: تثبيت فؤاد النبي e وترتيل القرآن الكريم ، ويمكن لنا أن نلاحظ بعض الأمور الأخرى بعد هذين الأمرين، أهمها: التدرج بالأمة في التربية والإعداد،  ثم تأكيد معنى الإعجاز وإظهار التحدي فيه بأجلى مظاهره،  وأخيرا الزيادة في توضيح معاني القرآن الكريم وبيان مراميها.
ولذلك فإننا سنبحث في هذه الأمور الخمسة بإيجاز، بما يلقى الضوء على كنهها وحقيقتها:
أ‌-      تثبيت قلب النبي e لأن القرآن الكريم كان مربيا للنبي e ومثبتا له في مقابلة ما كان يراه من قومه من مشاق وأذى بالغ،  فكان تتابع القرآن الكريم عليه وصلة الوحي به طيلة مدة بعثته مثبتا لعزمه وشاحذا لهمته على متابعة الطريق في حمل الرسالة إلى آخر مدى بدليل أن الوحي كان ينقطع عن النبي e في بعض الأحيان لمدة قصيرة، فكان يجد من ذلك ضيقا بالغا، فكيف به إذا انقطع عنه سنين طويلة.
ب - ترتيل القرآن الكريم: المراد به حفظه وجمعه في الصدور لفظا ومعنى،  فالعرب أمة أمية، والرسول e منهم، لا يعلم القراءة والكتابة، ولو أنزل القرآن الكريم جملة واحدة لشق على النبي e وأصحابه حفظه مرة واحدة، ولذلك كان في تفريقه حكمة بالغة لسهولة جمعه في صدورهم على هذه الطريقة، وبذلك تحقق للقرآن الكريم النقل المتواتر إلينا عن طريق هذا الحفظ، ويشير إلى هذا ترديد النبي e له طيلة يومه خشية نسيانه، مما أوقع النبي e في حرج بالغ ومشقة زائدة، حتى نزل قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (القيامة 16-17)، وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)، عندها اطمأن قلب النبي e وهدأ روعه.
ج- التدرج في التربية والإعداد للأمة الإسلامية: فتنظم به أمورها،  وقد أنزل القرآن الكريم في أمة ابتعدت عن جادة الصواب كثيرا في معتقداتها وعاداتها وتشريعاتها، ولذلك كان من العسير جدا ردها إلى طريق الصواب دفعة واحدة، فقضت حكمة الله جل وعلا أن يربيها تربية تدريجية لئلا يشق عليها ويحمàلها من أمرها عسرا، فكان التنزيل القرآني منجما مؤمنا لهذه الغاية ومحققا لهذا الهدف من اليسر ودفع المشقة عن المؤمنين،  فالخمرة حرمت على دفعات، وكذلك كل الواجبات كانت تأتي على دفعات أيضا، فالصلاة فرضت أولا، ثم الصوم، ثم الحج، وهكذا كانت تأتي الأوامر والفرائض كلها لتسهل على نفس المؤمن إساغتها والعمل بموجبها، والتدرب على القيام بها.
د- تأكيد معنى الإعجاز: الإعجاز كما تقدم في تعريفه بيان عجز الغير وضعفه عن المجاراة، وتنجيم القرآن الكريم تضمن تأكيدا لهذا المعنى، إذ لو نزل القرآن الكريم دفعة واحدة لاحتج العرب بأنهم لا يستطيعون مجاراة القرآن الكريم جملة واحدة ، ولكنهم بإمكانهم أن يأتوا بجزء منه بعد جزء، فكان مجيء القرآن الكريم منجما ردا لهذه الدعوى، بأن القرآن الكريم قد أنزل أجزاء وهو يتحداهم بكل جزء من أجزائه لا بكله فقط. وفي هذا منتهى التحدي المعجز، ثم إلى جانب ذلك فإن في انسجام آيات القرآن  الكريم وتناسقها مع تنجيمها زيادة إعجاز، لأنها  لو نزلت دفعة واحدة، فإن كان تناسقها مع نزولها دفعة واحدة معجزا فهو مع تنجيمها معجز من باب أولى، لأن إمكان التخلخل مع التنجيم أكثر بكثير من إمكانه مع النزول دفعة واحدة، يعرف هذا كل من عانى الكتابة والتأليف.

هـ- تثبيت معاني الأحكام وتوضيح مراميها،  لأن أسباب النزول تلقي ضوءا كاشفا على طبيعة الحكم الشرعي وحدوده، ولا زال العلماء يلجؤون دائما في تفسيرهم لآيات الله إلى أسباب نزول هذه الآيات، للكشف عن الوقائع والأحداث التي أنزلت الآية والآيات بسببها،  ولو أنزل القرآن الكريم دفعة واحدة لفقدنا هذا العنصر المهم في بيان أهداف الآيات ومراميها.
هذا إلى جانب أسباب كثيرة لهذا التنجيم مفصلة في كتب علوم القرآن.



أحكام القرآن الكريم وطريقته في معالجتها:
القرآن دستور الأمة الإسلامية والمصدر الأول للتشريع فيها، ولذلك نراه يبحث في كل الأمور، ويجمع شتات كل الأحكام، ويوفق بين كل الحقوق والواجبات، ولا يترك شاردة ولا واردة من أمور الدين أو الدنيا إلا وينظمها بنصوص أو بإشارات أو بتوجيه للأساس أو المصدر الذي يجب الاعتماد عليه فيها، وذلك مصداقا لقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، وقد روي عن بعض الصحابة  y قوله: (والله لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في القرآن)، وقد روي أن جاهلا ناقش أحد أئمة المسلمين معترضا عليه في أن  في القرآن الكريم كل شيء، وقال له: أين طريقة صنع السيارة في القرآن الكريم .فأجابه الإمام: هي في قوله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43)، وبهذا يكون القرآن الكريم قد بحث في كل الأحكام، ونظم كل الحقوق والواجبات إجمالا لا تفصيلا.

ولزيادة الإيضاح نقول: أن القرآن الكريم نظم الأحكام التالية:
1-   حقوق الإنسان وواجباته نحو ربه سبحانه وتعالى،  اعتقادية كانت – وهو ما يسمى الآن بعلم الكلام – أو عملية – وهو ما يسمى بقسم العبادات – فأما الأمور الاعتقادية فقد شغلت أكثر القرآن الكريم ، وقد تفنن القرآن الكريم في عرضها، من ذلك قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص (1-4)، ومنها قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة:58-59)  أما أحكام العبادات، فقد تعرض لها القرآن الكريم بإجمال، وترك أكثر تفصيلاتها ودقائقها إلى السنة الشريفة   الشريفة، من ذلك قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) من غير تفصيل لشروطه وأركانه وغيرها.
2-    حقوق الإنسان وواجباته نحو أفراد أسرته، وهو ما يدخل اليوم تحت قسم الأحوال الشخصية، فقد بين القرآن الكريم حقوق الزوج وحقوق الزوجة وحقوق الوالدين وحقوق ذوي الأرحام جميعا، مالية كانت أو غير مالية، هذه الحقوق عالج القرآن الكريم قسما منها بالتفصيل لخطورتها ودقتها، فلم يترك أمر تفصيلها لأحد،  بل تكفل هو بكل ذلك، من ذلك أحكام المواريث، وعالج القسم الآخر بإجمال، تاركا تفصيلها إلى المصادر التشريعية الأخرى بعد ما أرسى معالمها الرئيسية، من ذلك أحكام الزواج والطلاق وغيرها،  حيث جاءت السنة وغيرها بالتفصيلات الكافية لها.
3-      حقوق الإنسان وواجباته نحو أفراد مجتمعه، وهذه على أقسام متعددة، أهمها:
أ) الأمور والعلاقات المالية، وهي ما يدخل في قسم المعاملات، من بيع وشراء وهبة وغيرها، وهذه عالجها القرآن الكريم بشيء من الإجمال، حيث أرسى قواعدها الأساسية وخطوطها العريضة دون تعرض لتفصيلاتها التي ترك أمرها للمصادر الأخرى وللقضاء في أكثر الأحيان، نظراً لطبيعة وضرورة التطور الكامن فيها.
من ذلك قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَ




مصادر التشريع الإسلامـي

تمهيــــد:
كل شريعة قامت على وجه هذه الأرض، وكل نظام أو قانون عاش فيها، لا بد أن يكون ناشئا عن أحد مصدرين اثنين لا ثالث لهما،  فهي إما أن تكون من قبل الله سبحانه وتعالى خالق البشر ومربيهم، وإما أن تكون من صنع البشر أنفسهم.
فالنوع الأول هو ما يدعى بالشرائع السماوية،  والنوع الثاني هو ما يسمى بالشرائع الوضعية، وعلى ذلك نرى أن شرائع العالم كله تنقسم إلى قسمين بحسب طبيعة مصدرها ومنشئها، وشريعتنا الإسلامية التي هي موضع دراستنا إنما هي شريعة من النوع الأول، إذ هي شريعة سماوية صادرة عن الله سبحانه، ولا دخل فيها لأي إنسان مهما ارتفعت رتبته وعلا مقامه، فالمشرع الأوحد عندنا هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعترف المسلون لأحد غيره بحق التشريع، حتى النبي e فإنما نقبل قوله وعمله وتقريره لأنه مخبر عن الله تعالى وناقل لأوامره ونواهيه ليس إلا، ولذلك أجمع المسلون على أن الأقوال والأعمال التي صدرت عن النبي e بمقتضى الجبلة الإنسانية لا تعتبر تشريعا ملزما بحال، كطريقته e في أكله وشربه ونومه 
وكذلك الفقهاء والعلماء والمجتهدون، فإنه لا دخل لهم في التشريع أبدا، وكل مالهم أن يفعلوه هو أن يعملوا عقولهم في فهم ما ورد عن الشارع من النصوص في حدود الضوابط التي وضعوها لهذا الفهم، دون الزيادة على هذه النصوص أو الإنقاص منهــا.
وعلى ذلك فإن المصدر التشريعي الوحيد في الشريعة الإسلامية إنما هو قول الله  سبحانه وتعالى ليس إلا، قال سبحانه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57)، فإنه هو المشرع الحقيقي ولا مشرع غيره. والقرآن كلام الله تعالى قامت على ذلك كل البراهين والأدلة النقلية والعقلية، وسوف نورد شيئا من ذلك في موضع حجية القرآن الكريم وأدلة هذه الحجية،  ولذلك أجمع المسلمون على اختلاف نزعاتهم وآرائهم ومذاهبهم على أن القرآن مصدر من مصادر الشريعة، بل هو المصدر الوحيد فيها، وما عداه من المصادر المعتبرة إنما هو تابع للقرآن أو فرع عنه، لثبوت حجيته بالقرآن نفسه، فيكون اتباعه والاحتكام إليه واستنباط الأحكام منه وعده مصدرا أصليا إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة،  إذ إن إتباعه إنما هو اتباع للقرآن حقيقة، لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه.
وعلى ذلك يكون القرآن هو المصدر الأصلي لهذه الشريعة، وما عداه من المصادر المتفق عليها والمختلف فيها إنما هي مصادر تبعية،  أو مصادر مجازية إن صح التعبير، لأنها في ثبوت حجيتها محتاجة للقرآن ومتوقفة عليه.
وإلى هذا المعنى أشار الغزالي في المستصفى حيث قال: (واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى: إذ قول الرسول e ليس بحكم ولا ملزم،  بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم،  كذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة الشريفة  ، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه).
لكننا نرى بعض العلماء بل أكثرهم يذهبون إلى أن القرآن والسنة والإجماع والقياس مصادر أصلية كلها، وما عداها مصادر تبعية، فيخالفون بذلك ظاهر ما تقدم تفصيله من اعتبار القرآن أصلا وما عداه تبعا له.
والجواب أن لهؤلاء الفقهاء عذرهم في هذا التقسيم،  وهو تقسيم اعتباري على أي حال لا يؤثر في جوهر الموضوع في شيء، وحجتهم في هذا التقسيم هي أن هذه المصادر الثلاثة بعد القرآن الكريم هي مصادر غنية بالأحكام كالقرآن،  بل إن بعضها أكثر منه غناء من حيث الكم، كالقياس، ثم إن هذه المصادر أثبتت في كثير من الأحيان أحكاما سكت عنها القرآن الكريم بتاتا ولم يتعرض إليها، كالسنة في كثير من مواضعها أو بعضها في بعض الأحيان تنسخ أحكاما جاء بها القرآن عند أكثر الفقهاء،  فهي لهذه الأسباب تعد مصادر أصلية،  بمعنى أنها مستقلة في إنشاء الأحكام عن القرآن الكريم، ولا يضر كونها ثبتت حجيتها بالقرآن في جعلها أصلية بحال، بخلاف المصادر الأخرى، فإنها لم تنفرد عن القرآن الكريم وهذه المصادر الثلاثة التي بعده في تشريعها للأحكام، بل هي تفسير لها أو استثناء منها أو علامة عليها، ولذلك فهي محتاجة إليها وفرع عنها، فكانت تبعية لذلك، كالاستحسان والاستصحاب وعمل الصحابي وغيره.
هاتان هما وجهتا نظر الفقهاء في بيان الأصلي والتبعي من المصادر، عرَّفتهما وبينت مناط الاختلاف فيهما، وأشرت إلى أن لكل منها وجهة نظر سليمة وموضوعية.
والحق أن القول الأول هو الأقرب للواقع، بل هو عين الواقع، وإن كان القول الثاني، أسهل في التبويب والتنسيق، وعلى كل،  ذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح كما يقول الأصوليون، وإنني في هذه الدراسة الموجزة لمصادر التشريع الإسلامي سوف أمشي على القول الثاني لسهولته ووضوحه، فأقسم المصادر إلى قسمين: مصادر متفق عليها وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وتسمى بالمصادر الأصلية، ومصادر مختلف فيها،  وهي ما عدا المصادر الأربعة الأولى، وتسمى بالمصادر التبعية.






تعريف جمهور العلماء لأصول الفقه وتحليله وعرف جمهور الفقهاء -وفيهم الحنفية والمالكية والحنبلية- أصول الفقه بأنه: (العلم بالقواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلته التفصيلية). تحليل تعريف الجمهــور: العلم: المراد به هنا المعرفة الحاصلة بطريق اليقين أو الظن، لأن بعض القواعد تكون ثابتة بطريق اليقين لقطعية الدليل ثبوتا ودلالة، وبعضها قد يثبت بطريق الظن نظرا لظنيه الدليل المثبت لها ثبوتا أو دلالة. بالقواعد: هي جمع قاعدة، وهي في اللغة الأساس، وفي الاصطلاح (الأمر الكلي المنضبط على جميع جزئياته) مثل قولهم: (الأمر للوجوب)، فإنه ضابط كلي غير مقتصر على حكم جزئي بعينه، بل تشمل كل أمر ورد عن الشارع، فعن طريقها عرفنا فرضية الصلاة والزكاة من قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)، وعن طريقها عرفنا إلزامية العقد من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (المائدة:1)، وهكذا كل أوامر الشارع، فإنها منضبطة بهذه القاعدة الأصولية. وينبغي الانتباه هنا إلى أن معنى العلم بالقواعد إنما هو معرفتها من مصادرها، أي استنباطها من أدلتها وليس تطبيقاً على جزئياتها، فإن تطبيقها من مهمة الفقيه وليس من مهمة الأصولي. الكلية: في هذا احتراز عن الأدلة الفقهية التفصيلية، فإنها ليست من علم الأصول، مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)، فهو قاعدة جزئية تثبت وجوب الصلاة وليس قاعدة كلية، وذلك لارتباطه بحكم معين، بخلاف القواعد الكلية مثل قولهم: المطلق يبقى على إطلاقه حتى يظهر دليل التقييد، فإنها لا علاقة لها بحكم فرعي بعينه. التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام: يخرج بهذا القيد القواعد العقلية لأنها لا علاقة لها بالأحكام، وكذلك القواعد الفقهية التفصيلية التي لا تؤدي إلى استنباط الأحكام كقولهم: (الضرر يزال شرعاً) فإنها تضبط بضعة أحكام ولكنها لا تؤدي إلى استنباطها. والأحكام: جمع حكم، وهو في اللغة القضاء، وأصله المنع، يقال حكمت عليه بكذا منعته من خلافه، ومنه قوله تعالى: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة:113)، أي يقضي، وهو في الاصطلاح الأصولي: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً)، أما في اصطلاح الفقهاء فهو: (أثر خطاب الله تعالى ..) دون الخطاب نفسه، فقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) هو الحكم عند الأصوليين، أما الفقهاء فلا يعتبرون ذلك هو الحكم، إنما الحكم عندهم هو الوجوب الناتج من هذا الخطاب. الشرعية: يخرج به كل الأحكام غير الشرعية، كالأحكام اللغوية والعقلية وغيرها، فقولنا الفاعل مرفوع حكم، ولكنه لغوي، ولذلك لا يدخل في علم الأصول. من أدلته التفصيلية: فيه احتراز عن الأدلة الإجمالية، فالأدلة الإجمالية هي المصادر التي تستنبط منها الأحكام، كالقرآن والسنة .. أما الأدلة التفصيلية فهي جزئيات هذه المصادر، مثل قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) فإنه دليل تفصيلي لحكم شرعي هو وجوب الصلاة. ثم أصبح علم الأصول يطلق على القواعد الكلية نفسها بعد أن كان يطلق على العلم بها، فيقال: هذا كتاب في علم الأصول، أي يتضمن القواعد الخاصة بهذا العلم، مثل علم الفقه تماما، فبعد أن كان يطلق على العلم بالأحكام الشرعية العملية، أصبح عَلَماً على الأحكام الشرعية العملية نفسها.




تحليل تعريف الفقه في الاصطلاح الشرعي

 العلم:
تقدم تفصيل معناه لغة وشرعا.

الأحكام:
جمع حكم، وهو في اللغة المنع والقضاء معا، يقال حكمت عليه كذا إذا منعته من خلافة، وحكمت بين القوم فصلت بينهـم.
والحكم في اصطلاح الأصوليين هو: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا)، ويطلقه الحنفية على أثر الخطاب لا على الخطاب نفسه، وسيجيء مزيد تفصيل لهذا الموضوع في مبحث الحكم إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك يكون الحكم في معناه العام لدى الحنفية (الوصف الشرعي المتعلق بالفعل)، فيخرج بذلك الذوات والجمادات وغيرها.

الشرعيـــة:
ما كانت من قبل الشارع الحكيم، وهو الله تعالى، فيدخل في ذلك الأحكام الواردة عن طريق القرآن الكريم، لأنه كلام الله تعالى، وكذلك عن طريق السنة الشريفة   الشريفة، لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم:3)، وكذلك ما كان منها عن طريق الإجماع والقياس وغيره من أدلة الشريعة، لثبوت حجية هذه الأدلة بالقرآن الكريم أو السنة الشريفة   المطهرة كما هو معروف في بابه.
ويخرج بهذا القيد الأحكام اللغوية، كقولنا: الفاعل مرفوع، فإنه حكم لغوي وكذلك،   – الأحكام العقلية والطبيعية وغيرها.

العمليـــة:
معناه ما يتعلق من الأحكام بأفعال العباد، فيخرج به ما يتعلق باعتقادهم، كالبحوث المتعلقة بوجود الله تعالى وصفاته والملائكة والكتب السماوية وغير ذلك من الأمور الاعتقادية التي أفرد الفقهاء لها علما مستقلا بها عرف بعلم الكلام أو علم التوحيد.

المكتسبة من الأدلـــة:
أي المأخوذة من الأدلة، فيخرج بذلك علم العوام فلا يعتبر من الفقه اصطلاحا، لخلوه عن معرفة الدليل.

التفصيليـــة:
هي الأدلة الجزئية المتعلقة بالمسائل الفرعية، كقولنا: قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103). دليل تفصيلي لوجوب الصلاة، ويخرج بهذا الوصف الأدلة الإجمالية، كالقرآن الكريم والسنة الشريفة بجملتها، فإنهما مصدر للأحكام، ولكنهما مصدر عام غير متعلق بمسائل فرعية معينة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق